• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصراع مع الإسلام والمعرفة الحديثة

حكمت البخاتي

الصراع مع الإسلام والمعرفة الحديثة

لقد فهم الصراع بين الغرب والشرق الإسلامي على أنّه صراع ديني تعود جذوره إلى أيام الصراع والحروب بين الدولة الرومانية والدولة الإسلامية، ولأنّ الديانة المسيحية كانت هي الديانة الرسمية للدولة الرومانية في قبالة الإسلام الذي هو الدين الرسمي للدولة العباسية التي تبنت حروب الدفاع أو حروب الفتح مع الرومان.

من هنا أخذ الصراع منحى دينياً في التعريف بهويته وبأسبابه، ثم جاءت الحروب الصليبية في القرنين الحادي عشر والرابع عشر الميلاديين، لتكرس حقيقة الحرب الدينية بين أوربا المسيحية والشرق الإسلامي والتي أطلقت عليها أوربا الحرب المقدسة، ثم انشغلت أوربا بحروبها المذهبية والطائفية/ المسيحية بين الكاثوليك والبروتستنات في القرون التي تلتها، لتنشغل أوربا عن الشرق الإسلامي الذي وجد نفسه في هذا العصر أيضاً في حلقة من الحروب الدينية المذهبية/ الإسلامية بين العثمانيين السنة والصفويين الشيعة.

وإذا كانت أوربا قد استطاعت أن تمحو من ذاكرتها آثار الحروب المذهبية المسيحية بواسطة العلمنة التي شملت كلّ مناحي الدولة في أوربا السياسية والقانونية، فإنّ آثار الصراع الديني مع الشرق الإسلامي لم تتخلص منه بالكلية أو تسقطه من ذاكرتها نهائياً، بل توثقت القناعة في الخطر الإسلامي المغروس في الذهن الأوربي منذ أن وصل الجيش العثماني إلى حدود النمسا وحاصر عاصمتها فيينا في العام 1529 والعام 1532، وكان ذلك الإحساس بالخطر الموروث في الذاكرة الأوربية حاضراً في زحمة الصراع بين الغرب ذي الشكل العلماني والشرق ذي المضمون الإسلامي، وكانت الخشية في أوربا من عودة الصراع بهذا المعنى الديني مع الشرق، لكن أوربا لم تكن على قدر المسؤولية في مواجهة هذه التوقعات بل مهدت مؤسسات الإعلام ومحفزات المخيال الأوربي على تبني الخطاب الذي يعكس إيماناً ضمنياً وقناعة راكدة في عمق فكر أوربا بهذا المعنى الديني في الصراع مع الشرق ذي الهوية والطبيعة الدينية في تصوّر الغرب، وهو ما مهد تحت تأثير الرادع الأمني إلى صعود التيارات اليمينية والشعبوية، وهي خليط من التوجهات العرقية والدينية/ المسيحية قادت إلى تضخم الإيمان بهذه المواجهة ذات المنحى الديني مع الشرق.

لقد غذَى الاستشراق باعتباره من وسائل المعرفة للآخر/ المسلم تلك التصورات لكنّه ترك الباب مفتوحاً لفهم أدق للإسلام يكاد أن يعيد النظر بطبيعة هذا الصراع وتفسيره بعيداً عن تلك الغرابة أو الاستثنائية الدينية في طبيعة شعوب الشرق الإسلامي التي رسختها وزادت في تكريسها في ذهنية أوربا وسائل المعرفة في عصر ما بعد الحداثة حين تخطت المركزيات والأصول في المعرفة التي أسست لها الأكاديميات والمؤسسات العلمية في عصر الحداثة الأوربية وأنتجت الاستشراق بكلّ ثقله العلمي والمعرفي.

لقد تحوّلت الصحافة إلى مؤسسات توازي المؤسسات العلمية/ الأكاديمية في التأثير المعرفي وفي الحصول على المعلومة ويقينية التوثيق بخصوص الشرق الإسلامي، ونجحت وعلى طريقة الاختزال الصحفي في اختصار العالم بالغرب مضافاً إلى الولايات المتحدة الأميركية التي صارت رائدة العالم الحر كما تصف نفسها في أدبياتها، وفي قبالة ذلك تم اختصار الشرق الإسلامي من الرومانس الذي ألهم الرحالة الأوربيين، من الحضارة التي تحدث عنها آدم متز، وآخرين من الفحولة الإسلامية التي تحدث عنها نيتشه ضمن إيمانه بفكرة السوبرمان، من التصوف والعرفان الذي تحدث عنه ماسنيون وكوربان، من القانون/ الفقه ومدارس علم الكلام واللغة ومدارس التفسير التي تحدث عنها غولد زيهر، تم اختصاره بإمكانية نسف العالم من حوله وثقافة الكراهية والحرب على الآخر، أخيراً تم اختصاره بشكل حاسم ونهائي في الأصولية.

وقد اظهرت نتيجة تحليل الكتاب المدرسي وفق البرشت نوت الذي تناوله الطالب الألماني في تخصصات الدين – انجلي/ كاثوليك والتاريخ والجغرافية أنّ هناك عجزاً في تناول الإسلام والمسلمين وقد تفاوت العجز بين الكم والكيف والتناسب الموضوعي، فمن جهة الكم هناك قلة شديدة في المعلومة، ومن جهة الكيف هناك خطأ/ تحريف في فهم الإسلام، ومن جهة التناسب الموضوعي فالمعلومة المستحصلة عن الإسلام تفتقد إلى الأهمية النوعية في المعرفة بالإسلام.

ويعلل الكاتب نوت كلّ ذلك العجز في الرجوع إلى مصادر ضعيفة في فهم الإسلام مما جعل التعليم في ألمانيا (تنقصه المعرفة السديدة عن الإسلام) – الشرق الإسلامي خطوط تاريخه الرئيسية، نوت باول- وكان الكاتب الفرنسي الجزائري الأصل محمّد أركون قبل ذلك قد أبدى انزعاجه من انتقال دراسة الإسلام من دوائر الاستشراق والدرس المؤسساتي الأكاديمي إلى كتاب وصحفيين غير محترفين بتاريخ الإسلام وغير متخصصين بدراسة الأديان.

 

المعلومة السريعة والمقتضبة ومعرفة الإسلام

لقد تحوّل الإسلام من مادة ثمينة للدراسة في الغرب لاسيما في عصر الاستشراق إلى مادة متداولة وبشكل مجتزأ في حياة الغرب المعاصر، ولعلّ عصر المعلومة السريعة والمقتضبة التي امتازت بها وسائل المعرفة التي يمكن أن نطلق عليها اليومية والمنتشرة إلى حد الابتذال كما يبدو في حياة الإنسان المعاصر، وأعني بها المؤسسات الإعلامية التي تحوّلت إلى سلطة مشاركة في صناعة القرار والرأي العام وليس مجرد سلطة رابعة تكتفي بحدود المراقبة لاسيما مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تمتهن تشكيل المعرفة اليومية لاسيما في السياسة، بل وتشكيل الموقف بشكل عملي على أساس المعرفة والمعلومة التي تسوقها والتي تمتهن نبذ الآخر والشحن المعادي بإزائه في الحوارات والمنشورات التي تبثها تلك المواقع والتي لم ينجو منها الإسلام بشكل خاص سواء عن طريق منشورات المنتمين إليه أو المنشورات المضادة، وإطارها في ذلك أنّها وسائل في المعرفة وبطبيعتها التقنية والتجارية تفتقر إلى العمق في الإدراك والتخصص العلمي في تناول الأشياء والأفكار والعقائد.

إنّها ألغت النخبوية المفترضة في المعرفة وألغت قواعد الحوار البناء في إنتاج المعرفة، وبالقدر الذي شكّلت تلك المواقع معابر للذات الفردية إلى العالم الحديث وإلى أوسع مساحة من الاتصال به، فإنّ الذاتية الصرفة ألغت معيار الموضوعية الذي انبنت عليه أو حاولت جاهدة أن تتأسس عليه العلوم الإنسانية الحديثة التي بدأت تتناول الإسلام في تطبيقاتها المنهجية ودراساتها العلمية والميدانية، لكن انحسارها وبطبيعتها عن وسائل التواصل تلك وعن اهتماماتها الإعلامية التي تمتهن العلوم السريعة والمقتضبة أدى إلى انحسار تأثيرها ودورها في صناعة المعرفة الحديثة حول الإسلام وقد ورثت الاستشراق في وظيفته في دراسة الإسلام والشرق الإسلامي.

لكن الاستشراق تفوق عليها في تكوين وشائج للصلات الاجتماعية بين دارسي الإسلام من الغربيين والمسلمين، فقد درس الكثير من الطلاب المسلمين على يد مستشرقين كبار وقد تحوّل هؤلاء الطلاب المسلمين إلى كتاب كبار استطاعوا في بعض أعمالهم الرد على الاستشراق وخوض نقداً علمياً تجاه آراءه وأفكار المستشرقين، لقد استطاعوا ردم الهوة جزئياً بين الاستشراق والإسلام أو حتى بين الغرب والشرق الإسلامي.

 إلّا أنّه ومع نهاية عصر الاستشراق وانحسار وظيفته في التعريف بالإسلام وثقافته وطبيعة اجتماعه وانحسار تواصل الكتاب المسلمين مع تراث الاستشراق وعجز العلوم الإنسانية الحديثة التي ورثت الاستشراق في التأثير المعرفي بصياغة الرؤية الأوربية تجاه الإسلام مثلما فعل الاستشراق لاسيما في شقه الأكثر سلبية تجاه الإسلام، فإنّ الرغبة الملحة في معرفة الإسلام والفضول اليومي للأفراد الأوربيين في تلك المعرفة الذي جاء نتيجة اضطراب العلاقة بين الغرب بالشكل العلماني والشرق ذي المضمون الإسلامي وانحسار مصادر المعرفة العلمية والموثوقية المعرفة ليس عن التواجد ولكن عن التأثير، أوحت لذلك الفضول أن يصدر أو يتسبب عن عوامل القلق والارتباك التي غزت نفوس الأفراد الأوربيين تجاه الإسلام لدراسة دوافعه في محاولة معرفة هذا الكائن الغريب عن حياة الحداثة والغريب أيضاً عن تفاعلات الحضارة السائدة المهيمنة في العالم وهي حضارة الغرب.

لقد بدا الإسلام غريباً في ماهيته وفي سلوكه بعد انحسار مصادر المعرفة به عن الريادة في قيادة المعرفة بخصوصه، لقد جاء محرك ذلك الفضول الذي تخلى عن معدات المعرفة الأساسية نتيجة الأحداث الإهابية في أوربا التي تسبب بها أصوليون إسلاميون سمحت دول أوربا لاسيما بريطانيا وفرنسا في التحرك لهم بحرية مريبة في مدنها تحت ذريعة حقوق الإنسان، لكنها لبت طموحات الغرب في صناعة صورة مشوهة وسيئة للإسلام.

وهكذا عاد توجيه الصراع بين الغرب والشرق الإسلامي تحت يافطة الصراع الديني، لكن هذه المرة ووفق إيديولوجية الغرب يتحمل الشرق الإسلامي توجيه الصراع توجيهاً دينياً بعيداً عن توجهات وتوجيهات الغرب الذي وجه الصراع لاعتباره صراعاً ثقافياً بين قيم الحداثة الليبرالية وقيم الإسلام الجامدة على منطق وسلوك العصور الوسطى الذي أدى بالغرب إلى امتثاله حالة نفسية واجتماعية عبر عنها مونيكا توشيكا – الشرق الإسلامي، م س – بـ (التحاملات) أو هي تمثلات العالم الحديث، أو هكذا أراد أن يمنحها الغرب صفة تاريخية في تبرير ومشروعية تحاملاته تلك ضد الإسلام وأفراده رغم أنّها خاطئة ومبالغة فيها وفق توشيكا.

ارسال التعليق

Top